سورة آل عمران - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}
{مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ}، اختلفوا في نزولها:
فقال الكلبي: قالت قريش: يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار، والله عليه غضبان وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا من يؤمن بك ومن لا يؤمن بك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال السدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليَّ أُمّتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم عليه السلام وأُعلمت من يؤمن بي ومن لا يؤمن» فبلغ ذلك المنافقين واستهزؤا وقالوا: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر به ممّن لم يخلق بعد، ونحن معه ولا يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال القوم حملوني وطعنوا في حلمي، لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلاّ أنبأتكم». فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: «حذافة»، فقام عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله رضينا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبك نبيّاً فاعف عنّا عفا الله عنك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فهل أنتم منتهون، فهل أنتم منتهون؟»ثم نزل عن المنبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فقالت أم حذافة له: ويحك ما أردت إلاّ أن تعرضني لرسول الله. فقال: كان الناس قد أذوني فيك فأحببت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانوا صدقوا رضيت وسكت، وإن كذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كفّوا عني.
وقال أبو العالية: سأل المؤمنون أن يُعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمنين والمنافقين، فأنزل الله عزّ وجلّ {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ} واختلفوا في حكم الآية ونظمها:
فقال بعضهم: الخطاب للكفار والمنافقين من الكفر والنفاق {حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين. وقال آخرون: الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم، ومعنى الآية: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، حتى يميز الخبيث من الطيب، وعلى هذا القول هو من خطاب التلوين، رجع من الخبر إلى الخطاب كقوله: {وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22].
وكقول الشاعر:
يا لهف نفسي كان جلدة خالد *** وبياض وجهك للتراب الأعفر
وهذا قول أكثر أهل المعاني، واللام في قوله: {لِيَذَرَ} لام الجحد، وهي في تأويل كي، ولذلك نصب ما بعدها حتى يميّز.
قرأ الحسن وقتادة وأهل الكوفة: بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
الباقون: بفتح الياء مخففاً.
يقال: بان الشيء يميّزه ميزاً وميّزه تميّزاً، إذا فرّقه وامتاز وانماز هو بنفسه.
قال أبو معاذ يقال: مزت الشيء أميزه ميزاً إذا فرقت بين شيئين، فإذا كانت أشياء قلت: ميّزتها تمييزاً، ومثله إذا جعلت الشيء الواحد شيئين، قلت: فرّقت بينهما، ومنه فرق الشعر، فإن جعلت أشياء قلت: فرقه وفرقها تفريقاً، ومعنى الآية: حتى يميّز المنافق من المخلص فيميّز الله المؤمنين يوم أُحد من المنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قتادة: حتى يميّز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد، ونظيرها في سورة الأنفال. ابن كيسان {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ} من الإقرار حتى نفرض عليهم الجهاد والفرائض التي فيها تخليصهم، ليميّز بها بين من يثبت على إيمانه ممّن ينقلب على عقبيه.
الضحاك: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ} في أصلاب الرجال وأرحام النساء، يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرّق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين.
وقال بعضهم: حتى يميّز الخبيث وهو المذنب، من الطيب وهو المؤمن، يعني حتى يحط الأوزار من المؤمن ما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة.
{وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} لأنه لا يعلم الغيب أحد غيره {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي} يختار {مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} بالغيب فيطلعه على بعض علم الغيب، نظيره قوله تعالى: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26-2].
وقال السدي: وما كان الله ليطلع محمداً صلى الله عليه وسلم على الغيب ولكن الله اجتباه {فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
وروى الفضل بن موسى عن رجل قد سمّاه قال: كان عند الحجاج منجم فأخذ الحجاج حصيات لم يعدّهن وقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأصاب المنجم، ثم اعتقله الحجاج، فأخذ حصيات لم يعدّهن فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب وحسب ثم أخطأ ثم حسب أيضاً فأخطأ، فقال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها في يدك؟ قال: فما الفرق بينهما؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب فحسبت وأصبت، وإن هذا لم يعرف عددها فصار غيباً ولا يعلم الغيب إلاّ الله.
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ}.
من قرأ بالياء جعل هو ابتداء وجعل الاسم مضمراً وجعل الخير خيراً بحسبان تقديره: ولا تحسبن الباخلون البخل خيراً لهم، فاكتفا بذكر يبخلون من البخل كما تقول في الكلام: قد قدم زيد فسررت به، وأنت تريد سررت بقدومه.
قال الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه *** وخالف والسفيه إلى خلاف
أي جرى إلى السفه ونظير هذا قوله: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] هو ابتداء والحق خبر كان، وقوله: {وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق} [سبأ: 6].
ومن قرأ بالتاء فعلى التكرير والبدل، كما ذكرنا في آية الاملاء، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ} يعني البخل {شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة}.
قال المبرد: السين في قوله: {سَيُطَوَّقُونَ} سين الوعيد وتأويلها: سوف يطوقون، واختلفوا في معنى الآية:
فقال قوم: معناها فجعل ما بخل به وما يمنعه من الزكاة حيّة تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه، تقول: أنا مالك، فلا يزال كذلك حتى يساق إلى النار ويغل، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائِل وابن مالك وابن فرعة والشعبي والسدي، ويدل عليه ما روى أبو وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلاّ جُعل له شجاع في عنقه يوم القيامة» ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق من كتاب الله تعالى {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة}.
وعن رجل من بني قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل الله إيّاه فيبخل به عنه إلاّ أخرج الله له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه» ثم تلا {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ} الآية.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يكون له مال فيمنعه من حقه ويضعه في غير حقه إلاّ مثله الله شجاعاً أقرع منتن الريح لا يمر بأحد إلاّ استعاذ منه حتى دنا من صاحبه، فإذا دنا من صاحبه قال له أعوذ بالله منك، قال: لمَ تستعيذ مني وأنا مالك الذي كنت تبخل به في الدنيا فيطوقه في عنقه فلا يزال في عنقه حتى يدخله الله جهنّم».
وتصديق ذلك في القرآن {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة}.
فقال إبراهيم النخعي: معناه يُجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقاً من نار.
مجاهد: يكلفون يوم القيامة أن يأتوا ممّا بخلوا به في الدنيا من أموالهم يوم القيامة.
المؤرّخ: يلزمون أعمالهم مثل ما يلزم الطوق بالعنق، يقال: طوق فلان عمله مثل طوق الحمامة.
عن يسار بن سعد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مانع الزكاة يوم القيامة في النار».
هشام بن عروة عن أبيه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخالط الصدقة مالا إلاّ أهلكته».
عن عكرمة عن جبير بن مهاجر عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حبس قوم الزكاة إلاّ حبس الله عنهم القطر».
وعن الحسن البصري قال: كان أعرابي صاحب ماشية، وكان قليل الصدقة فتصدق بعريض من غنمه، فرأى فيما يرى النائم كأنما وثبت عليه غنمه كلها فجعل العريض يحامي عنه، فلما انتبه قال: والله لئن استطعت لأجعلن أتباعك كثيراً. قال: وكان بعد ذلك يقسم.
قال الثعلبي: أنشدنا أبو القاسم الحسين بن محمد قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن عبد الله قال: أنشدنا العلائي قال: أنشدني المهدي بن سابق:
يا مانع المال كم تضمن به *** أتطمع بالله في الخلود معه
هل حمل المال ميت معه *** أما تراه لغيره جمعه
ابن سعيد عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وأراد بالبخل كتمان العلم الذي أتاهم الله، يدل عليه قوله تعالى في سورة النساء: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [الآية: 37] الآية.
ومعنى قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} أي يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى: {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31]، {وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} يعني أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم، نظيره قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم: 40].
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالياء، الباقون: بالتاء.
{لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ}.
قال الحسن ومجاهد: لما نزلت {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] قال اليهود: إن الله فقير يستقرض منّا ونحن أغنياء، والقائل فنحاص بن عازوراء عن ابن عباس.
وروى الحسن: أن قائل هذه المقالة حيي بن أخطب.
قال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق:كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً، فدخل أبو بكر رضي الله عنه ذات يوم بيت مدراسهم فوجد ناساً كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم، ومعه حبرآخر يُقال له: أشيع، فقال أبو بكر رضي الله عنه لفنحاص: إتق الله وأسلم إنك لتعلم أن محمداً قد جاءكم بالحق من عند الله {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] فأمن وصدّق واقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب.
قال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربّنا يستقرضنا أموالنا ولا يستقرض إلاّ الفقير من الغني، فإن كان ما تقول حقاً فإن الله إذاً لفقير ونحن أغنياء، ولو كان غنياً ما أعطاناه ربّي، فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله.
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أنظر ما صنع بيّ صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «ما الذي حملك على ما صنعت؟» فقال يا رسول الله: إن عدوّ الله قد قال قولا عظيماً، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص، فأنزل الله عزّ وجلّ رداً على فنحاص وتصديقاً لأبي بكر رضي الله عنه {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} من الإفك والفرية على الله عزّ وجلّ فنجازيه به.
وقال مقاتل وابن عبيد: سيحفظ عليهم، الكلبي: سنوجب عليهم في الآخرة جزاء ما قالوا في الدنيا، الواقدي: سيؤمن الحفظة من الكتاب، نظيره قوله: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94]. قرأ حمزة والأعمش والأعرج: بياء مضمومة.
{وَقَتْلَهُمُ} برفع اللام {وَيَقُولُ} بالياء، اعتباراً بقراءة عبد الله ويقال: {ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي النار، والنار اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة، والحريق اسم للملتهبة منها، وهو بمعنى المحرق كما يقال: عذاب أليم وضرب وجيع.
{ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فيعذب بغير ذنبه {الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} الآية.
قال الكلبي: نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وزيد بن تابوه وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا وأنزل علينا كتاباً، فإن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك، فأنزل الله عزّ وجلّ {قالوا} يعني وسمع الله قول الذين قالوا، ومحل {الذين} خفض ردّاً على الذين الأول {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} أي أمرنا وأوصانا في كتبه على ألسنة رُسله.
{أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ} أي لا نصدق رسولا يزعم أنه جاء من عند الله {حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} فيكون ذلك دلالةً على صدقه، والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله عزّ وجلّ من زكاة وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة مثل الرفعان من الرّفع والغنيان من الغنى، ويكون اسماً ومصدراً فمثال الاسم: السلطان والبرهان، ومثال المصدر: العدوان والخسران.
وكان عيسى بن عمر يقرأ: قُربان فبضم الراء والقاف كما يقال في جمع ظلمة: ظلمات، وفي جمع حجرة: حجرات.
قال المفسرون: كانت القرابين والغنائم تحل لبني إسرائيل، فكانوا إذا قرّبوا قرباناً وغنموا غنيمة فإن تقبل منهم ذلك جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف، فتأكل ذلك القربان وتلك الغنيمة وتحرقهما، فيكون ذلك علامة القبول، وإذا لم يقبل بقي على حاله.
وقال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطائب اللحم فيضعونها في وسط البيت والسقف مكشوف، فيقوم النبي في البيت ويناجي ربّه، وبنو إسرائيل خارجون حول البيت، فتنزل نار فتأخذ ذلك القربان فيخر النبي ساجداً فيوحي الله عزّ وجلّ إليه بما شاء.
قال السدي: إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة: من جاءكم من أحد يزعم أنه رسول فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان، قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم {قُلْ} يا محمد {قَدْ جَآءَكُمْ} يا معشر اليهود {رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ} من القربان {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} يعني زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء، وأراد بذلك أسلافهم، فخاطبهم بذلك لأنهم رضوا بفعل أسلافهم، ومعنى الآية تكذيبهم يا محمد إياك مع علمهم بصدقك، كقتل آبائهم الأنبياء مع الإتيان بالقربان والمعجزات، ثم قال معزياً نبيه صلى الله عليه وسلم {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات والزبر} وبالزبر أي الكتب المزبورة يعني المكتوبة أصلها من زبرت أي كتبت، واحدها زبور مثل رسول ورسل، وكل كتاب فهو زبور.
قال امرؤ القيس:
لمن طلل أبصرته فشجاني *** كخط زبور في عسيب يماني
وقال بعضهم: هو الكتاب الحسن حكاه المفضل وأنشد:
عرفت الديار كخط الدويّ *** يحبره الكاتب الحميري
وقرأ ابن عامر: وبالزبر بزيادة باء، وكذلك هو في مصاحفهم.
وقال عكرمة ومقاتل والواقدي: يعني بالزبر أحاديث من كان قبلهم، نظيرها في سورة الحج والملائكة.
{والكتاب المنير} الواضح المضيء {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت}.
قرأه العامة: بالإضافة، وقرأ الأعمش: {ذائقة} بالتنوين، {الموت} نصباً، وقال: لأنها لم تذق بعد.
وقال أمية بن الصلت:
من لم يمت عبطة يمت هدما *** للموت كأس والمرء ذائقها
أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله عزّ وجلّ آدم عليه السلام اشتكت الأرض إلى ربّها لما أخذ منها، فواعدها أن يرد منها ما أُخذ منها، فما من أحد إلاّ يدفن في الثرى التي خُلق منها».
{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} توفون جزاء أعمالكم {يَوْمَ القيامة} إن خيراً فخير وإن شراً فشر {فَمَن زُحْزِحَ} نجا وأُزيل {عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} ظفر بما يرجوا ونجا ممّا يخاف {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} يعني منفعة ومتعة، كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى، قاله أكثر المفسرين.
وقال عبد الرحمن بن سابط: كزاد الراعي، الحسن: كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل له.
قتادة: هي متاع متروكة توشك أن تضمحل بأهلها، فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم، والغرور الباطل، ونظيرها في سورة الحديد.
عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا اله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، ويأتي الناس ما يحب أن يؤتى إليه».
أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها فأقرؤا إن شئتم {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحياةُ الدُّنْيَآ إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ}».
{لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} الآية.
قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وفنحاص، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى فنحاص بن عازورا سيد بني قينقاع يستمده وكتب إليه كتابه، وقال لأبي بكر: «لا تفتت عليَّ بشيء حتى يرجع»، فجاءه أبو بكر رضي الله عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال: قد أحتاج ربّكم إلى أن يمده، فهمَّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تفتت بشيء حتى يرجع»، فكفَّ ونزلت هذه الآية.
وقال الزهري: نزلت في كعب بن الأشرف وذلك أنه كان يهجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسب المؤمنين ويحرض المشركين على النبي وأصحابه في شعره وينسب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لي بابن الأشرف».
فقال محمد بن سلمة الأنصاري: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: «فافعل إن قدرت على ذلك» فرجع محمد بن سلمة فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب إلاّ ما تعلق نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال: «لم تركت الطعام والشراب؟» قال: يا رسول الله قد قلت قولا ولا أدري هل أفي به أم لا؟
قال: «إنما عليك الجهد» فقال: يا رسول الله إنه لابد لنا من أن نقول، قال: «قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك» فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلاحة بن وقش وهو ابو نائلة وكان أخا كعب من الرضاعة وعباد بن بشر بن وقش والحرث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر فمشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجهّهم وقال: «انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم».
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في ليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدّموا أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة فتناشدا الشعر وكان أبو نائلة يقول الشعر ثم قال: ويحك يابن الأشرف إني قد جئتك بحاجة أريد ذكرها لك فأكتم عليَّ. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل بلاء، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس.
فقال كعب: أنا ابن الأشرف أما والله لقد أخبرتك يابن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا.
فقال أبو نائلة: إن معي أصحاباً أردنا أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك ونحسن في ذلك. قال: ترهنوني أبناءكم؟ قال: إنّا نستحي أن يعير أبناؤنا. فقال: هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين.
قال: أترهنونني نساءكم؟ قالوا: أنت أجمل الناس ولا نأمنك، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك، ولكنّا نرهنك الحلقة يعني السلاح ولقد علمت حاجتنا اليوم إلى السلاح.
فقال: نعم ائتوني بسلاحكم، فأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا جاؤا بها، فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفته، وأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنك رجل محارب وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة.
قال: إن هؤلاء لو وجدوني نائماً ما أيقظوني وإنه أبو نائلة أخي.
قالت: فكلمهم من فوق الحصن. فأبى عليها إلاّ أن ينزل إليهم، فتحدث معهم ساعة ثم قالوا: يابن الأشرف هل لك أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه. قال: إن شئتم فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شمّ يده فقال: ما رأيت كالليلة طيب عروس قط. قال: إنه طيب أم فلان، يعني امرأته ثم مشى ساعة ثم عاد بمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة فعاد لمثلها، ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال: اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئاً.
قال محمد بن سلمة: فذكرت معولا في سيفي، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلاّ أوقدت عليه ناراً. قال: فوضعته في ثندوّته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، ووقع عدو الله وقد أصيب الحرث بن أوس في رأسه بجرح أصابه بعض أسيافنا. قال: فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحرث ونزفه، الدم فوقفنا ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه، فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه، وتفل على جرح صاحبنا ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت اليهود لوقعتنا بعدو الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» فوثب محيصة بن مسعود على سنينة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله، وكان حويصة بن مسعود إذ ذلك لم يسلم، وكان أسنّ من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه وهو يقول: أي عدو الله قتلته، أما والله لربّ شحم في بطنك من ماله. فقال محيصة: والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة، فقال: لو أمرك محمد بقتلي لقتلنني؟ قال: نعم. قال: والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب فأسلم حويصة، فأنزل الله في شأن كعب بن الأشرف {لَتُبْلَوُنَّ} لتخبرن واللام للتأكيد، وفيه معنى القسم، والنون تأكيد القسم.
{في أَمْوَالِكُمْ} بالحوادث والعاهات والخسران والنقصان.
{وَأَنْفُسِكُمْ} بالأمراض، وقيل بمصائب الأقارب والعشائر.
قال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم وباعوا رباعهم وعذبوهم.
قال الحسن: هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة.
{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} يعني اليهود والنصارى {وَمِنَ الذين أشركوا} يعني مشركي العرب، {أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ} على أذاهم {وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور} من حق الأمور وجدّ الأمور وخيرها، قال عطاء: من حقيقة الإيمان.


{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}
{وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} في أمر محمد صلى الله عليه وسلم {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}. قرأ عاصم وأبو عمر وأهل مكة: بالياء فيهما واختاره أبو عبيد.
الباقون: بالتاء واختاره أبو حاتم، فمن قرأ بالتاء فعلى إضمار القول، أي قال: ليبيننه، ودليله قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم} [آل عمران: 81] ومن قرأ بالياء فلقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} طرحوه وضيعوه وتركوا العمل به.
{واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} يعني المأكل {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}.
قال قتادة: هذا لميثاق الله أخذ على أهل مكة ممّن علم شيئاً فليعلّمه، وإيّاكم وكتمان العلم فإنه هلكة.
وقال محمد بن كعب: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه ولا لجاهل أن يسكت على جهله، قال الله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} الآية، وقال: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
ثابت بن البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة أنه قال: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ الله}. أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كتم علماً عن أهله أُلجم يوم القيامة لجاماً من نار».
وعن الحسن بن عمارة قال: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألقيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني؟ فقال: أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أُحدثك. فقال: حدثني. فقلت: حدثني الحكم ابن عيينة عن نجم الجزار قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا» قال: فحدثني بأربعين حديثاً.
{لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} يحسبن بالياء، قرأه حميد بن كثير وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وأبو عمرو، وغيرهم بالتاء، فمن قرأه بالياء فمعناه: ولا يحسبن الفارحون منجياً لهم من العذاب، ومن قرأ بالتاء فمعناه: ولا تحسبن يا محمد الفارحين بمفازة من العذاب، وخبره في الباء.
وقوله: {تَحْسَبَنَّ} بالتاء، وفتح الباء إعادة تأكيد.
وقرأ الضحاك وعيسى: {لا تحسبن} بالتاء وضم الباء، أراد محمداً وأصحابه.
وقرأ محمد وابن كثير وأبو عمرو ويحيى بن يعمر: بالياء وضم الباء خبراً عن الفارحين، أي فلا تحسبن أنفسم، واختلفوا فيه فيمن نزلت هذه الآية.
روى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: «أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله لو خرجت إلى الغزو لغزونا معك، فإذا خرج عليه السلام خلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا».
وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن رافع بن خديج: أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان وهو يومئذ أمير المدينة فقال مروان لرافع: في أي شيء أُنزلت هذه الآية: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ}؟ فقال رافع: أنزلت في أناس من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تخلفوا عنهم، فأنكر مروان وقال: ما هذا؟ فجزع رافع من ذلك وقال لزيد بن ثابت: أنشدك الله هل تعلم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال زيد: نعم، فخرجا من عند مروان، فقال زيد لرافع وهو يمزح معه: أما تحمد في ما شهدت لك وقال رافع: وأي شيء هذا؟ أحمدك على أن تشهد بالحق؟ قال زيد: نعم قد حمد الله على الحق أهله.
وقال عكرمة: نزلت في فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار، يفرحون بإضلالهم الناس، وبنسبة الناس إياهم إلى العلم، وقولهم إنهم علماء وليسوا بأهل علم لم يحملوهم على هدى ولا خير.
الضحاك والسدي: هم يهود أهل المدينة كتبوا إلى يهود اليمن والشام وأطراف الأرض: أن محمداً ليس برسول فاثبتوا على دينكم. فاجتمعت كلمتهم على الكفر بمحمد والقرآن ففرحوا بذلك وقالوا: الحمد لله الذي جمع كلمتنا فنحن على دين إبراهيم ونحن أهل العلم الأول، وليسوا كذلك.
مجاهد: هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس تبديلهم الكتاب، وجهدهم إياه عليه.
سعيد بن جبير: هم اليهود فرحوا بما أعطى الله إبراهيم وهم براء من ذلك.
وروى ابن أبي مليكة عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أنّ مروان بن الحكم قال لمولاه: يا أبا رافع اذهب إلى ابن عباس وقل له: إن كان كل امرئ منا يفرح بما أوتي وأحب أن يحمد لما لم يفعل معذباً لنغدين جميعاً. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما دعا رسول الله اليهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أنهم أخبروه بما قد سألهم عنه، فاستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بكتمانهم إياه ذلك، فنزلت هذه الآية.
قتادة ومقاتل: أتت يهود خيبر لنبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نحن نعرفك ونصدقك وإنّا على رأيكم ونحن لكم ردأً، وليس ذلك في قلوبهم، فلما خرجوا من عنده قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ قال: عرفناه وصدقناه، فقال لهم المسلمون: أحسنتم هكذا فافعلوا، فحمدوهم ودعوا لهم فأنزل الله لهم هذه الآية.
وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال: نزلت في ناس من اليهود جهّزوا جيشاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفقوا عليهم، وقرأها إبراهيم {بما أوتوا} ممدوداً أي أعطوا.
وقرأ سعيد بن جبير {أُوتُواْ} أي أعطوا.
قال الله {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب}.
عن عطاء بن أبي رباح قال: دخلت مع ابن عمر إلى عائشة رضي الله عنها فقال ابن عمر: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله؟ فبكت فأطالت ثم قالت: كل أمر رسول الله عجب، أتاني في ليلتي فدخل معي في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال: «يا عائشة هل لك أن تأذني لي في عبادة ربّي عزّ وجلّ؟» فقلت: والله يا رسول الله إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك قد أذنت لك، فقام عليه الصلاة والسلام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حجره، ثم رفع يده فجعل يبكي حتى رأيت الدموع قد بلت الأرض، فأتاه بلال بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً» ثم قال: «ومالي لا أبكي وقد أنزل الله تعالى في هذه الليلة عليَّ {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآية ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».
وعن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} إلى قوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
عمرو بن موسى عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشدّ آية في القرآن على الجن {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض}» الآية.
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: ما جاءكم به موسى من الآيات؟
فقالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟
قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع لنا ربّك يجعل لنا الصفا ذهباً، فأنزل الله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآية ثم وصفهم فقال: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً}.
قال علي وابن عباس والنخعي وقتادة: هذا في الصلاة يصلي قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنبه، يسر من الله وتخفيف.
وقال سائر المفسرين: أراد به ذكر الله تعالى، ووصفهم بالمداومة عليه، إذ الإنسان قلما يخلوا من معنى هذه الحالات الثلاثة، نظيره قوله في سورة النساء.
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله».
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ذكر الله تعالى علم الإيمان وبرء من النفاق وحصن من الشيطان وحرز من النيران».
وقال الله تعالى لموسى عليه السلام: يا موسى اجعلني منك على بال ولا تنس ذكري على كل حال، وليكن همّك ذكري فإنّ الطريق إليَّ.
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} إنّ لها صانعاً قادراً ومدبراً حكيماً.
روى حماد عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أُسري به إلى السماء السابعة فإذا ريح ودخان وأصوات قال: «فقلت: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذه الشياطين يحرقون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب».
وكان ابن عور يقول: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية، كما يحدث الماء الزرع والنبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة. وحُكِي أن سفيان الثوري صلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء فلما رأى الكواكب غُشي عليه. وكان سفيان يبول الدم من طول حزنه وفكره.
زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل مستلقي على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أن لي ربّاً وخالقاً اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له».
وقال أبو الأحوص: بلغني أن عابداً يعبد في بني إسرائيل ثلاثين سنة وكان الرجل منهم إذا تعبّد ثلاثين سنة أظلته غمامة ولم ير شيئاً، فشكى ذلك إلى والده. فقال له: يا بُني فكّر هل أذنبت ذنباً منذ أخذت في عبادتك؟ قال: لا، ولا أعلمني هممت به منذ ثلاثين سنة. قال: يا بني بقيت واحدة إن نجوت منها رجوت أن يظلك؟ قال: وما هي؟ قال: هل رفعت طرفك إلى السماء ثم رددته بغير فكرة؟ قال: كثير. قال: من هاهنا أتيت. {مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} ذهب به إلى لفظ الخلق ولو ردّه إلى السماوات والأرض، لقال: هذه باطلا عبثاً هزلا، بل خلقته لأمر عظيم.
وانتصاب الباطل من وجهين: أحدهما: بنزع الخافض، أي للباطل وبالباطل. والآخر: على المفعول الثاني.
{سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أهنته.
وقال المفضل: أهلكته، وأنشد:
أخزى الإله من الصليب عبيده *** واللابسين قلانس الرهبان
وقيل: فضحته، نظيره قوله: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78]. واتخذ القائلون بالوعيد هذه الآية جُنّة، فقالوا: قد أخبر الله سبحانه أنه لا يخزي النبي والذين آمنوا معه ثم قال: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} فوجب أن كل من دخل النار فليس بمؤمن وأنه لا يخرج منها.
واختلف أهل التأويل في هذه الآية:
فروى قتادة عن أنس في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} قال: إنك من تخلد في النار.
وروى الثوري عن رجل عن ابن المسيب في قوله: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} فقال: هذه خاصة لمن لا يخرج منها.
وروى أبو هلال الرّاجي عن قتادة في قوله: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} إنك من تخلد في النار، ولا نقول كما قال أهل حروراء، حدثنا بذلك أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج قوم من النار».
وقال بعضهم: {إنك من تدخل النار} من خلد فيها ومن لم يخلد فقد أخزيته بالعذاب والهلاك والهوان. قال عمرو بن دينار: قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهيت إليه أنا وعطاء فقلت له: {ربّنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته}، قال: وما إخزاؤه حين أحرقه بالنار إن دون ذلك لخزياً.
وقال أهل المعاني: الخزي يحتمل الحياء، يقال: خزيٌ يخزي، خزاية إذا استحيا.
قال ذو الرمّة:
خزاية أدركته عند جوليه *** من جانب الحبل مخلوطاً بها الغضب
وقال القطامي في الثور والكلاب:
حرجاً وكر كرور صاحب نجدة *** خزي الحرائر أن يكون جباناً
أي يستحي، فخزي المؤمنين الحياء، وخزي الكافرين الذل والخلود في النار.
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ينادي للإيمان أي إلى الإيمان، كقوله: {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وقيل: اللام بمعنى أجل.
قال قتادة: أخبركم الله عزّ وجلّ عن مؤمني الإنس كيف قالوا وعن مؤمني الجن كيف قالوا، فأما مؤمنوا الجن فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يهدي إِلَى الرشد} [الآية: 1-2] وأما مؤمنوا الإنس فقالوا {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}.
{رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} أي في جملة الأبرار {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} على ألسِنَة رسلك كقوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 81].
وقرأ الأعمش: {رسلك} بالتخفيف.
{وَ تُخْزِنَا} لا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنّا {يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} يعني قيل: ما وجه قولهم: {ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} وقد علموا وزعموا أن الله لا يخلف الميعاد، والجواب عنه: إن لفظه الدعاء، ومعناه الخبر تقديره: {واغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار} ولا تخزنا، وتؤتينا ما وعدتنا على ألسن رسلك من الفضل والرحمة والثواب والنعمة، وقيل معناه: واجعلنا ممّن تؤتيهم ما وعدت على ألسنة رسلك ويستحقون ثوابك، لأنهم ما تيقنوا إستحقاقهم لهذه الكرامة، فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها، ولو كان القوم قد شهدوا بذلك لأنفسهم، لكانوا قد زكّوها وليس ذلك من صفة الأبرار.
وقال بعضهم: إنما سألوا ربّهم تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء وإعزاز الدين، لأنها حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أنك لا تخلف وعدك من النصر والظفر على الكفار، ولكن لا صبر لنا على حكمك، فعجّل خزيهم وانصرنا عليهم.
ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجز وعده، ومن أوعد على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار».
عن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: سألني عمرو بن عبيد: أيخلف الله وعده؟ قلت: لا. قال: فيخلف الله وعيده؟ قلت: نعم. قال: ولِمَ؟ قلت: لأن في خلفه الوعد علامة ندم وفي خلفه الوعيد إظهار الكرم، ثم أنشأ يقول:
ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي *** ولا أختبي من خشية المتهدد
إني وإن أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
عن سعيد المقبري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر آل عمران كل ليلة.
وعن يزيد بن أبي حبيب: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: من قرأ في ليلة {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} إلى آخرها كتبت له بمنزلة قيام ليلة.
{فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ}.
روى أبو بكر الهذلي عن الحسن قال: ما زالوا يقولون: ربّنا ربّنا حتى استجاب لهم ربّهم.
وروى عن الصادق أنه قال: من حزَّ به أمر فقال خمس مرات: ربنا أنجاه الله ممّا يخاف وأعطاه ما أراد. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: اقرؤا إن شئتم الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً إلى قوله تعالى الميعاد.
فأما نزول الآية: فقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء بشيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال: وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا {أَنِّي} أي بأني أو لأني، نصب بنزع الخافض.
وقرأ عيسى بن عمر: {إني} بكسر الألف، كأنه أضمر القول أو جعل الإستجابة قولا.
{لاَ أُضِيعُ} لا أحبط ولا أبطل {عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} أيها المؤمنون {مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}.
قال الكلبي: يعني من الدين والنصرة والموالاة، وقيل: حكم جميعكم في الثواب واحد، وقيل: كلكم من آدم وحواء.
الضحاك: رجالكم بشكل نسائكم في الطاعة ونساؤكم بشكل رجالكم في الطاعة، نظيرها قوله: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
{فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي} أي في طاعتي، وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة وآذوهم {وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ}.
قرأ محارب بن دثار: {وقتلوا} بفتح القاف وقاتلوا.
وعن يزيد بن حازم قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقرأ: {وقتلوا وقتلوا} يعني أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين ثم قتلهم المشركون.
وقرأ أبو رجاء والحسن وطلحة: {وقاتلوا وقتِّلوا} مشدداً.
قال الحسن: يعني إنهم قطّعوا في المعركة.
وقرأ عاصم وأبو عبيد وأهل المدينة: {وقاتلوا وقتلوا} يريد أنهم قاتلوا ثم قتلوا.
وقرأ يحيى بن وثَّاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: {وقتلوا وقاتلوا} ولها وجهان: أحدهما وقاتل من بقى منهم، تقول العرب: قتلنا بني تميم، وإنما قتلوا بعضهم. والوجه الآخر: بإضمار قد أي وقتلوا وقد قاتلوا.
قال الشاعر:
تصابى وأمسى علاه الكبر... {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله}.
قال الكسائي: نصب {ثواباً} على القطع، وقال المبرد: مصدر ومعناه: لأتينهم ثواباً.
{والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب}.
عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يدعوا يوم القيامة بالجنة ويأتي بزخرفها وزينتها فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيل الله وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة، فيدخلونها بغير حساب ولا عذاب، فتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربّنا نسبح الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا، فيقول الله عزّ وجلّ: هؤلاء عبادي الذين أوذوا في سبيلي، فيدخل عليهم الملائكة يقولون: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار».


{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}
{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} نزلت في مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما يرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت هذه الآية.
وقال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فأنزل الله {لاَ يَغُرَّنَّكَ}.
وقرأ يعقوب: {يغرنك} وأخواتها ساكنة النون.
وأنشد:
لا يغرنك عشاء ساكن *** قد يوافي بالمنيات السحر
{تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ}: ضربهم وتصرفهم في البلاد للتجارات والبياعات وأنواع المكاسب والمطالب، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، لأنه لم يغيّر لذلك.
قال قتادة في هذه الآية: والله ما غرّوا نبي الله ولا وكّل إليهم شيئاً من أمر الله تعالى حتى قبضه الله على ذلك، نظيره قوله تعالى:
فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد... [غافر: 4]، ثم قال: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} أي هو متاع قليل بُلغة فانية ومتعة زائلة، لأن كل ما هو فان فهو قليل.
الأعمش عن عمارة عن يزيد بن معاوية النخعي قال: إن الدنيا جعلت قليلا فما بقى منه إلاّ القليل من قليل.
روى سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن المستورد الفهري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الدنيا في الآخرة إلاّ مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع».
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا فيما مضى إلاّ كمثل ثوب شق باثنين وبقي خيط إلاّ وكان ذلك الخيط قد انقطع».
{ثُمَّ مَأْوَاهُمْ} مصيرهم {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد * لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ}.
قرأ أبو جعفر: بتشديد النون، الباقون: بتخفيفه.
{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً}.
قرأ الحسن والنخعي: {نزلاً} بتخفيف الزاي استثقالا لضمتين، وثقّله الآخرون، والنزل الوظيفة المقدرة لوقت.
قال الكلبي: جزاءً وثواباً من عند الله، وهو نصب على التفسير، كما يقال: هو لك صدقه وهو لك هبة، قاله الفراء.
وقيل: هو نصب على المصدر، أي انزلوا نزلا، وقيل: جعل ذلك نزلا.
{وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} من متاع الكفار.
الحسن عن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير مزمول بالشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، ودخل عليه عمر وناس من أصحابه فانحرف النبي صلى الله عليه وسلم انحرافة فرأى عمر رضي الله عنه أثر الشريط في جنبه فبكى، فقال له: «ما يبكيك يا عمر؟» فقال عمر: ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيها من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عمر ألم ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» قال: بلى. قال: «هو كذلك».
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} الآية، اختلفوا في نزولها:
فقال جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وقتادة: نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أضحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبرئيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أُخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم».
قالوا: ومن هو؟ قال: «النجاشي»، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي، وصلى عليه ركعتين وكبّر أربع تكبيرات واستغفر له، وقال لأصحابه: «استغفروا له».
فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
عطاء: نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، وأثني وثلاثين من أرض الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم.
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} يعني القرآن {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} يعني التوراة والإنجيل {خَاشِعِينَ للَّهِ} خاضعين متواضعين، وهو نصب على الحال والقطع {لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} يعني لا يحرّفون كتبهم ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل المأكلة والرئاسة، كما فعلت رؤساء اليهود {أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب * يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا}.
قال الحسن: {اصبروا} على دينكم فلا تدعوه لشدة ولا رخاء ولا سرّاء ولا ضرّاء، قتادة: {اصبروا} على طاعة الله، الضحاك ومقاتل بن سليمان: {اصبروا} على أمر الله عزّ وجلّ، مقاتل ابن حيان: {اصبروا} على فرائض الله، زيد بن أسلم: على الجهاد، الكلبي: على البلاء.
قالت الحكماء: الصبر ثلاثة أشياء: ترك الشكوى، وصدق الرضا، وقبول القضاء. وقيل: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنّة.
{وَصَابِرُواْ} يعني الكفار، قاله أكثر المفسرين.
قال عطاء والقرظي: {وصابروا} الوعد الذي وعدكم، {وَرَابِطُواْ} يعني المشركين، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم، ثم قيل ذلك لكل مقيم في ثغر يدفع عمّن وراءه وإن لم يكن له مركب، قال الله تعالى: {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60].
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا حامد الخازرنجي يقول: المرابطة اعتقال المبارزين في الحرب، وأصل الربط الشد، ومنه قيل للخيل: الرباط، ويقال: فلان رابط الجأش، أي قوي القلب.
قال لبيد:
رابط الجأش على كل وجل ***
قال عبيد: داوموا واثبتوا.
عن سمط بن عبد الله البجلي عن سلمان الفارسي: أنهم كانوا في جند المسلمين، فأصابهم ضرّ وحصر فقال سلمان لصاحب الخيل: ألا أحدّثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون لك عوناً على الجند، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رابط يوماً أو ليلة في سبيل الله كان عدل صيام شهر وصلاته الذي لا يفطر ولا ينصرف من صلاة إلاّ لحاجة، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله له أجرة حتى يقضي بين أهل الجنة وأهل النار».
الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رابط يوماً في سبيل الله جعل الله عزّ وجلّ بينه وبين النار سبعة خنادق، كل خندق منها كسبع سماوات وسبع أرضين».
وفيه قول آخر وهو ما روى مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن صالح قال: قال لي سلمة بن عبد الرحمن: يابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية {اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ}؟ قال: قلت: لا. قال: إنه يابن أخي لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، ولكنّه انتظار الصلاة خلف الصلاة. ودليل هذا التأويل ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «اسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط».
وقال أصحاب اللسان في هذه الآية {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا} عند صيام النفس على احتمال الكرب {وَصَابِرُواْ} على مقابلة العناء والتعب {وَرَابِطُواْ} في دار أعدائي بلا هرب.
{واتقوا الله} بهمومكم من الألتفات إلى السبب {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} غداً بلقائي على بساط الطرب.
السري السقطي: اصبروا على الدنيا، رجاء السلامة {وصابروا} عند القتال بالبينات والاستقامة {ورابطوا} هوى النفس اللوامة {واتقوا} ما يعقب لكم الندامة {لعلكم تفلحون} غداً على بساط الكرامة. وقيل: {اصبروا} على بلائي {وصابروا} على نعمائي {ورابطوا} في دار أعدائي {واتقوا} محبة من سواي {لعلكم تفلحون} غداً بلقائي. وقيل: {اصبروا} على الدنيا {وصابروا} على البأساء والضراء {ورابطوا} في دار الأعداء {واتقوا} اله الأرض والسماء {لعلكم تفلحون} في دار البقاء.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7